1- دعوى عدم وصول الأموال إلى مستحقيها
وبعض الإخوة يتعذرون ويقولون: إن هذه الأموال قد لا تصل إلى مستحقيها.
وأقول: عندي لك جوابان سريعان: فأما أولهم: فعلى لسان
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله
عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل خرج
بصدقته ليلة فوضعها في يد إنسان، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على
زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية! لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في
يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك
الحمد، على زانية وعلى سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد
غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على
زانية وعلى سارق وعلى غني! فقيل له: إنه في الصدقة المتقبلة، أما الغني،
فلعله أن يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما السارق
فلعله أن يستغني فيستعف عن سرقته} .
وأمرٌ آخر: أن هناك طرقاً موثوقة تستطيع أن تطمئن بها إلى وصول المال إلى مستحقيه.
2- عدم الإنفاق خوفاً من المسئولية
الحجة الثالثة: البعض يحجمون عن الإنفاق خوفاً من
المسئولية، ومن أن يحاسبوا من بعض الجهات، ومن بعض الدوائر: لماذا دعمت
هؤلاء؟ ولماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا أنفقت هنا؟ ولماذا أنفقت هنا؟ وأقول:
هناك أيضاً جوابان: أولها: قال الله جل وعز: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب أن تخاف الله تعالى أن يحاسبك
لماذا لم تدعم أولئك المحتاجين؟ ولماذا لم تساعد عبادي المجاهدين؟ ولماذا
لم تتبرع لمشاريع الخير والدعوة؟ فيجب أن تخاف حساب الله قبل أن تخاف حساب
المخلوقين.
ثانياً: هناك طرقٌ مأمونة بحيث تستطيع أن توصل المال إلى وسيط تطمئن إليه وتثق به، دون أن يكون هناك أي وثيقة أو مستند رسمي.
3- الإنفاق لمن لا نعرف حاله
فقد تقول لي: كيف نطعم المسلمين الذين تحدثت عنهم
كثيراً، وهم في غالبهم منحرفون مقصرون، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يعرف
دينه، وبعضهم مسرف على نفسه، وبعضهم واقع في المعاصي، وسوف أجيبك بأربع
نقاط على عجالة: أولاً: هم في الجملة مسلمون، ولهم عليك حق الأخوة
الإسلامية ولو كانوا مقصرين، فأنت لا تستطيع أن تخرجهم في جملتهم عن مسمى
الإسلام.
ثانياً: إن أكمل وأحسن طريقة للدعوة إلى الله أن تشبعه
وتطعمه وتعالجه وتساعده وتكسوه، ثم تقدم له الهداية والدعوة بعد ذلك، وليس
صحيحاً أن تقوم بدعوته وهو على هذا الحال من الفقر والجوع وتقول عنه ما
تقول.
ثالثاً: أنت في سباق مع النصارى الذين لا يكفيهم أن
يكون هذا المسلم مقصراً، أو مفرطاً، بل ولا يكفيهم أن يكون هذا المسلم
مبتدعاً، أو ضالاً، بل يريدونه أن يكون نصرانياً، بل يريدونه أن يكون
قسيساً داعية إلى الكفر.
الأمر الرابع: إن المسئولية علينا جميعاً، فنحن مسئولون
أيضاً كما نحن مسئولون عن فقرهم، نحن مسئولون عن جهلهم في الدين، وواجب
علينا أن نحمل إليهم الدعوة إلى الله عز وجل، ونحرص على إيصالها إليهم بقدر
المستطاع، ونحن كما صحنا بك إليك وصوتنا وطلبنا منك أن تبذل لهم الطعام
والشراب والكساء، فنحن أيضاً قد دعوناك إلى بناء المسجد، وبناء المركز،
وبناء المدرسة، وطباعة الكتاب، وطباعة الشريط.
إن الإنسان الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، ينفق ولو وصلت
نفقته إلى من لا يستحقها، فإنه يثاب عليها، ويتقبلها الله منه، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل، قال: لأتصدقن الليلة
بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها- فجمع تلك الصدقة من ماله،
والناس نيام فخرج بها، فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة
على بغي! فقال: لك الحمد، على بغي.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام
فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني!
فقال: لك الحمد، على غني.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته، فجعلها في
يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على
سارق، فأتاه ملك في النوم
فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء
والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني: لم يكن يستشعر أن عليه
حقاً، فلما تصدقت عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة
إلا الجوع، فقد أغنيته عن ذلك) ، فتقبل الله سبحانه وتعالى منه هذا العمل
الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله
على ذلك.
والإنفاق إذا وقع في محله كانت له فوائد عظيمة على
المجتمع كافة، تخيل -يا أخي- عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال،
وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك،
وخرجت به تلتمس الفقراء والمحرومين، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله،
فوجدت أسرة لا ترى فيها مواقد النار، وليس بها غنى، أهلها متعففون لا
يتكففون الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الفقير الذي
يتردد على الأبواب، وترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما
الفقير المتعفف) ، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك -وهو في داره- كتب الله
لك أجر ذلك، ووجدته أمامك يوم القيامة.
4- وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق
إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو
يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر
إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع
والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا
الفقر، كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] ، وهذا عكس ما أمر الله به:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] ، فإذا علم الإنسان عداوة
الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن
كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ،
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله،
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا
في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال:
إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت
عيناه) ، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور
التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من
التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه
يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه.
فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة.
فيقول: افعله وصية بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله
عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان لفلان) وقد كتب له ذلك
بالقدر؛ لكن (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم، فإنك لن تتغلب على محاولة الشيطان إلا عندما تكون صحيحاً
شحيحاً، وتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات، ثم
أنفقته ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى.
ثم إن من مكائد الشيطان ومجاهدته مع الإنسان أنه إذا
أراد الإنفاق، وغلبه فلا ينفق إلا شرار ماله، فلا ينفق خيار ماله، وكرائم
أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله
منه في الصدقة الواجبة فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه؛
لتنفقوه في سبيل الله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا
فِيهِ} [البقرة:267] أي: لو كنتم تطالبون أحداً بدين، فقضاه بذلك الخبيث لم
تكونوا تأخذوه، إلا أن تغمضوا فيه، فتتغاضوا عن بعض حقكم!! ومع هذا فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (إياك وكرائم أموال الناس! واتق
دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، لكن هذا في حق الذي سيأخذ
من الناس صدقات أموالهم، وهذا لا ينبغي له؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا
عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم:
(أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه،
فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر) .
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي،
مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت
فأمضيت؟!) إن مالك هو الذي سيصحبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله
وأهله، ويبقى عمله) .
إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يتحدون
الشيطان، ويخالفونه ويتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، فإن
الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة فقال: {إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] ، هذا الخبر وهو صدق:
{فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] ، وهذا هو الأمر، فعلينا تصديق الخبر
وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، والذي
يطيعه فيما يأمره به ليس ولياً لله قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء
الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير، ويجاهده، ويراغمه، فينفق دون أن يحول
الشيطان بينه وبين ذلك، ليس هو من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه
ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص هو الذي يوفقه الله سبحانه
وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، وقد ضرب الله له مثلاً عجيباً بالصخرة
التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى صلداً ليس فوقها
شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم
يأتي المطر فيذهب به فتبقى الصخرة وليس عليها ما يرد ويدفع عنها عوامل
النحت والتعرية.
المحور: طرق وأساليب في الانفاق
أولاً: عليك بالاعتدال عن الإنفاق على نفسك وأهلك وأولادك، وتوفير جزء ولو يسير من الدخل لتستفيد منه في الإنفاق.
إنني أعرف أن أكثر الآباء قد يُعطي الطفل عشرة ريالات،
أو يشتري له لعبة بمائة ريال، فإذا انكسرت اللعبة، قال للطفل: لا يهم،
البقية في حياتك، ثم يشتري له غيرها، وفي المقابل لو أتاه فقير، أو مسكين،
أو مشروع خيري، فإنه يتردد في إعطائه ولو أقل مبلغ من المال، وهذا من كيد
الشيطان، فإنه لا تأتي الحسابات والتساؤلات والشكوك والظنون إلا في المجال
الخيري الذي ينفعك في الدار الآخرة.
ثانياً: نحتاج إلى ترك بعض المظاهر والعادات الأسرية
والمدنية والقبلية، كارتفاع المهور في الزواج، وتضخيم المناسبات والمبالغة
فيها، كما نحتاج أيضاً إلى الاقتصاد في الملبوسات والمصاغات، والأحذية
الموجودة بكميات كثيرة لدى الرجال والنساء، فانظر في زوجتك -مثلاً- وفي
نفسك كم يوجد عندكم من الذهب، كم الذي تلبسه زوجتك؟ وكم يوجد من الملابس لك
ولها لا تلبسونها قط؟ وكم يوجد من الأشياء التي لا تحتاجونها وربما يكون
فات وقتها؟ ولا مانع أن تشتري لنفسك ولولدك ولزوجك شيئاً جميلاً، والبس من
غير إسراف، ولا مخيلة، ونوِّع، وتصدق أيضاً.
كما أننا نحتاج إلى التبرع بالمواد العينية الفائضة عن
حاجتك من غسالة، أو ثلاجة، أو فرش، أو ملابس، أو غيرها بشرط أن تكون نظيفة،
أو صالحة للاستعمال، بل وحتى الأطعمة مطبوخة كانت، أو غير مطبوخة يجب
إيصالها لمستحقيها، مع العناية بجودتها، وحسن مظهرها، وعدم وضع الأطعمة
وتكويمها في الأماكن العامة والشوارع، بل ربما تكون أحياناً مختلطة مع
القمامات والأوساخ.
ثم هناك أمر ثالث: وهو اقتطاع جزءٍ ولو يسير من الراتب
يكون على شكل اشتراك شهري للمعلم، أو المعلمة، أو الموظف، أو الموظفة، أو
أي إنسان بحيث يخرجه شهرياً، وإنني أخاطب المرأة على وجه الخصوص، فأقول:
المرأة غير مسئولة عن صرف شيء من المال في بيتها، بل ولا على نفسها، ولا
على أولادها، حتى ملابسها، حتى حذائها، حتى طعامها على زوجها، أو أبيها فهو
مطالب بتأمينه لها، فلماذا لا تدخر ذلك كله ليوم الحساب، أو تستثمره لأمر
دنيوي، ويعلم الله تعالى من قلبها أنها تنوي أن تتصدق كلما رزقها الله
تعالى؛ ليكون ذلك سبباً في سعة رزقها وحسن توفيقها في عاجل أمرها وآجله.
رابعاً: إن وجود هذا الاشتراك الأسبوعي، أو الشهري، أو
حتى السنوي في نشاط من النشاطات، أو عمل من الأعمال، أو جمعية، أمرٌ حسن؛
لأنه يعتاد الإنسان عليه، فلا يشق عليه إخراجه.
وكذلك يعرف أن هناك دخلاً ثابتاً محسوباً يعتمد عليه ويحسب ضمن المبلغ الداخل، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.