قال تعالى{وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا} [الحديد:10] لقد جاءت الزكاة بمعناها الشرعي الخاص في أكثر من
ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وحث الله تعالى على الصدقة والإنفاق،
وتنوعت في ذلك الطرائق، وأهم تلك الطرق التي رصدتها في القرآن والسنة في
الحث على الإنفاق تقرب من عشرين طريقة، أسردها على عجالة كما يلي:
إنها سنة ماضية، وأهل هذا الدين مبتلون ومختبرون،
فعلينا -أيها الإخوة وأيتها الإخوات- أن نفزع مع إخواننا المسلمين، وأن
نصدق الله تعالى، وألا نمل ولا نكل ولا نحتقر شيئاً مهما قل؛ فإن الصدقة
يربيها الله تعالى للإنسان، كما يربي أحدنا فلوه، حتى تكون كالجبل العظيم،
أو تحسد نفسك الخير والمعروف والبر والجود؟ والله تعالى يقول: {وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] .
فيا أيتها الأخوات المؤمنات -وأنا إذ أنادي النساء خاصة
فإني أريد أن أثير حمية الرجال أيضاً- يا أيتها الأخوات المؤمنات تصدقن
ولو من حليكن، كما قال لكن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الناصح
الأمين {تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} ويا أيها الرجال،
إذا بذلت النساء، وتخلت المرأة المسلمة عن ساعتها أو عن قرطها، أو عن شيء
من حليها، أفتعجز أنت أن تتخلى عن جزء من مرتبك أو رصيدك، في سبيل الله
تعالى.
إن المحروم من حرم هذا الخير، خاصة في هذه الأيام
المباركات، والساعات التي يرجى أن تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات،
وتكفر فيها السيئات.
فأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن أسرعوا
إلى الخيرات، وسابقوا إليها فكانوا لها سابقين، إنه على كل شيء قدير،
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
الصدقة من علامات التقوى
الحادية عشرة: الإنفاق علامة من علامات التقوى، قال
تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133-134] .
النفقة قربة إلى الله
ثامناً: النفقة قربى إلى الله عز وجل، قال الله تعالى:
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ} [التوبة:99] الفريضة أولاً، وهي الزكاة، ثم النافلة، وربنا عز
وجل يقول: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} .
الدعوة لسرعة الإنفاق
أولاً: الدعوة إلى المسارعة إلى الإنفاق في زمن الحاجة والفقر والشدة، فهو خير من البذل زمن السعة والغنى.
إن المسلمين اليوم جياع فقراء ضعفاء وهم غداً -بإذن
الواحد الأحد- أقوياء أغنياء أعزاء غير محتاجين إلى أحدٍ من الناس، فالذين
ينفقون زمن الفقر والحاجة قبل الفتح هم أعظم درجة، كما قال الله عز وجل:
{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ
أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}
[الحديد:10] .
إن الإسلام منصور، وراية الجهاد مرفوعة، فأدرك شرف المشاركة اليوم قبل أن يفوتك الفضل والنبل.
الثواب من الله على المتصدقين
ثالثاً: الأجر والثواب في الآخرة للمنفقين والمتصدقين
المخلصين، فهي تجارة مضمونة، ولكن ليس فيها شائبة ربا، أو شبهة حرام:
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا
أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] .
الصدقة دليل على البراءة من النفاق
رابعاً: الصدقة دليل على البراءة من النفاق،
وبرهان على الإيمان وصدق اليقين في القلب، قال الله تعالى عن المنافقين:
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً}
[النساء:39] .
وقال عن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .
فهذا هو الحصار الاقتصادي الذي تواصى به المنافقون
بالأمس في الضغط على المؤمنين، ومحاولة التضييق عليهم، وحرمانهم من الوظائف
والأعمال والأموال والمرتبات، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأموالهم حتى
ينفضوا.
لقد ظن هؤلاء أن اجتماع المؤمنين والمسلمين هو على
المغنم، وعلى الدنيا، فاعتقدوا أن المال هو الذي يقدم ويؤخر، والله تعالى
يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] .
فهم ما اجتمعوا على المال، ولا من أجله، ولذلك لن يفرقهم الجوع أبداً.
لقد كان السجناء من المؤمنين والدعاة في بعض السجون
يجوعون، ثم يعطى الواحد منهم قطعة من الشوكولاته تصله من بعض أقاربه
بالتهريب وبطريقة سرية، فلا يأكلها، بل يعطيها إخوانه، ثم تدور على
المجموعة حتى تصل إلى الأول الذي أخرجها طيبةً بها نفسه، ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: {والصدقة
برهان} أي: دليل على صحة وصدق إيمان المتصدق.
معالم قرآنية في الحث على الإنفاق
صور كثيرة تجعلنا نتذكر ونهتم ونعتني بهذه الشعيرة في
الإنفاق والبذل والعطاء الذي نبتغي به أجر الله سبحانه وتعالى، ونجد لذلك
بعضا ًمن المعالم والمعاني القرآنية المهمة التي يحسن الذكر لها، ولعلنا
نستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة) ، فهذه معادلة
صادقة، وهي أصدق من المعادلات الرياضية، وهي أوضح وأصدق من قضية واحد يزاد
عليه فيصبحان اثنين؛ لأن هذا خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
صحيح أنه قد يكون عندي الألف، فإذا أخرجت مائة أصبح
تسعمائة، لكنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر: (فيقبلها ربه
بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون عند الله مثل جبل أحد) .
صدقة يسيرة تضاعف حتى تصبح مثل جبل أحد، وجبل أحد محيطه
إذا سرت حوله بالسيارة يبلغ ستة كيلو مترات، وانظر إلى حجمه وضخامته، ولا
تظن أن هذه مجرد أمثال، بل هي خبر حقيقي صادق ثابت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلماذا لا نعتقد يقيناً أنه لن ينقص هذا المال من الصدقة من حيث
الأجر الأخروي، ومن حيث البركة الدنيوية؟ ومن حيث البركة فهي في وجهين:
قليل يبارك فيه فينفع ويفيض، ونرى ذلك كثيراً، ترى من عنده راتب قليل وعيال
كثير وهو مبتسم منشرح الصدر، ويأتي آخر شهره وقد قضى حوائجه بحمد الله،
وآخر راتبه أضعافه وأبناؤه أقل منه، ومع ذلك يشكو من الويل والثبور وعظائم
الأمور، ومن ضيق ذات اليد، وليس الأمر في الكثرة ولكنه في البركة، والبركة
لا تحل إلا بطاعة الله والاستجابة لأمره والإنفاق في سبيله والتفقد لعباده.
وينبغي أن نوقن بذلك، وأن نراه جزماً في واقع حياتنا،
ومن البركة كذلك أنك تنفق ويزيد الله سبحانه وتعالى لك ويخلف عليك؛ لأنه
وعد، ووعده صادق سبحانه وتعالى.
ومما ينبغي أن يحرص عليه المتصدق أمر الخفاء والسر
والتجرد بالإخلاص في النفقة، كما قال جلا وعلا: {إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في شأن
السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجل تصدق بصدقة
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، ولعمري ما من بلاغة أحسن من
هذا التعبير النبوي، حتى إن اليدين وهما في جسد واحد لا تعلم اليسرى ما
أنفقت اليمنى، فغير ذلك من الخفاء أولى، وذلك هو معروف بصدقة السر التي لها
عظيم الأجر وعظيم الأثر في الوقت نفسه.
وأعظم من هذا وذاك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، أي: تسل سخائم النفوس،
وتسل ضغائن القلوب، وتطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر نفوس الفقراء من
الحسد.
صور كثيرة أصبحنا نراها في مجتمعاتنا يوم ضعفت صلتنا بكتاب ربنا وبسنة نبينا وبديننا وإسلامنا.
ألسنا نرى هذا وهو يحسد ذاك، وهو يتمنى لو أنه أخذ ما عنده؟ وترى الآخر وهو يشح ويبخل ويرى غيره غير مستحق لنعمة الله عز وجل.
كم هي هذه الصور التي لا يغيرها إلا منهج الله وإلا
عبادة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد قال في وصف الإنسان:
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20] ، وكثيرة هي الأمور
المتصلة بهذا الشأن، ولعلنا ننتبه لها، وسنعرف كذلك من بعد ما يضادها.
نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه
للصيام والقيام والذكر والتقوى، وأن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما فيه غفلة
ومعصية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.