ازدادت حاجة المسلمين إلى الاستخبار منذ خرج ارسول الله من مكة مهاجراً إلى المدينة يرافقه صاحبه ( أبو بكر الصديق ) رضي الله عنه وبعدها حدثت عدة عمليات .. منها :
أخبار الأيام الأولى للهجرة : في الطريق إلى المدينة مكثا في غار ثور ثلاثة أيام . وكان ( عبد الله بن أبي بكر ) يحمل لهما أخبار وأحوال المسلمين والكفار في مكة أولاً بأول .
سرية ( عبد الله بن جحش ) : في السنة الثانية للهجرة , كلف النبي ( عبد الله بن جحش ) , برصد تحركات قريش , ومعرفة أخبارهم إذا يروى أن رسول الله دفع إلى ( ابن جحش ) كتاباً أمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين , وينفذ ما فيه .
ولما فتح الكتاب في حينه , قرأ نصه : " إذا نظرت في كتابي هذا , فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف , فترصد بها قريشا , وتعلم لنا من أخبارهم " .
أعلن ( عبد الله بن جحش ) محتوى الكتاب على رفاقه , وساروا نحو غايتهم السامية في مهمتهم الاستطلاعية لقوات المشركين , والتقوا بثلاثة تخلفوا عن قافلة لقريش حتى يحصلوا على معلومات عن قوات المسلمين , فاشتبك معهم ( عبد الله بن جحش ) ورجاله , وقتل أحدهم , واقتاد الآخرين إلى النبي يستجوبهم .
عيونٌ علي أبي سفيان : في غزوة بدر الكبرى , خرج من المدينة , وسار مع أصحابه حتى اقتربوا من ( الصفراء ) , وبعث من يأتيه بأخبار ( أبي سفيان بن حرب ) , وأخبرته العيون أن قريشاً سارت إلي ( أبي سفيان ) ليمنعوا إبله وتجارته حتى لا تقع في أيدي المسلمين .
وفي غزوة بدر أيضاً , أرسل النبي اثنين من المجاهدين للحصول على معلومات عن قوات المشركين , فوجد أحدهما غلامين لقريش يستقيان من بئر بدر , فأحضرهما إلى الرسول الكريم , وسألهما عن عدد الجمال التي ينحرونها للجيش , فأجابا بأنهم ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً .. ومن ذلك أدرك ( عليه الصلاة والسلام ) أن عدد مقاتلي المشركين يتراوح بين 900 - 1000 , لأن عادة العرب أن يخصصوا بعيرا لكل مائة رجل .
علي بن أبي طالب في مهمة : عملية التموية التي قام بها ( علي بن أبي طالب ) - كرم الله وجهه - لم تكن عملية المخابرات الأولى ولا هي الأخيرة , إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بعد موقعة أحد , أن يقتفي أثر الكفار ويستطلع نواياهم , فوجد أنهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل , فعرف أنهم عائدون إلى مكة , بعد أن مثلوا بكثير من قتلى المسلمين , جدعت نساؤهم الأنوف , وقطعن الآذان , واتخذن منها قلائد .. وبقرت ( هند ) بنت عتبة بطن ( حمزة ) عم رسول الله .
وأمر رسول الله بتغطية جثمان ( حمزة ) ببرده , ثم صلي عليه وعلى القتلى 72 صلاة , وأمر بدفنهم .
حيلة نعيم بن مسعود : علم النبي أن قريشاً عبأت جيوشها و (غطفان ) , وانشغلت بمحاولة استمالة قبيلتي ( بني قريظة ) و ( بني أشجع ) , للتحالف معها والحنث بعهدهما للنبي , توطئة لمهاجمة المسلمين في المدينة .. بادر النبي فأمر بحفر خندق حول يثرب , كان الأول من نوعه , وكان مفاجأه أذهلت الكفار وعوقتهم عن مهاجمة المدينة .
كما جعلتهم صيداً سهلاً لسهام المسلمين , وتحقق النصر للمسلمين , خصوصاً وأن أمل قريش في استمالة ( غطفان ) و ( بني اشجع ) إلى جانبهم قد خاب بفضل ( نعيم بن مسعود ) .. فماذا فعل ؟؟
( نعيم بن مسعود ) .. من وجهاء غطفان .. أسلم سرا ولم يشهر اسلامه بين قومه .. ذهب إلى النبي محمد وأكد له خبر محاولة قريش وبني غطفان حض ( بني قريظة ) و ( بني اشجع ) على خيانة المسلمين والنكوص بعهدهم , وقال ( نعيم ) إنه طوع أمر رسول الله , فكلفه الرسول بإفساد مؤامرتهم بالحيلة إذا استطاع .
ذهب ( نعيم ) إلى ( بني قريظة ) أعزل من أي سلاح .. إلا سلاح المكر والدهاء , فأوقع بينهم وبين قريش وغطفان , زرع في نفوسهم الشك والارتياب , وحذرهم من أنهم سوف يتخلون عنهم حين تدور الدوائر , بعد أن يكونوا قد خسروا حلف المسلمين وحسن جوارهم , وتأكيداً لصدق رأيه نصحهم بأن يطلبوا من قريش وغطفان رهناً من أشرافهم , يظلون بأيديهم حتى يضمنوا صدقهم واستمرار نصرتهم .
تركهم ( نعيم ) بعد أن أقنعهم بحيلته , وذهب إلى قريش وغطفان , وأخبرهم أن بني قريظة يضمرون لهم شراً , وأنهم رافضون للحلف المعروض عليهم , راغبون في استمرار تحالفهم مع المسلمين , وقد أرسلوا إلى النبي يؤكدون وفاءهم بالعهد , واستعدادهم لأخذ رجال من أشراف قريش وغطفان وتقديمهم ليضرب المسلمون أعناقهم .
أوفدت قريش وغطفان ( عكرمة بن أبي جهل ) في رهط منهم إلى ( بني قريظة ) يستنفرهم للقتال , فامتنعوا بحجة أنهم لا يقاتلون يوم السبت , واشترطوا إعطاءهم رهناً من رجالهم يحتفظ بهم ( بنو قريظة ) ضماناً لعدم التخلي عن العهد إذا اشتدت المحنة .. ورفضت قريش وغطفان شرط الرهن .. واقتنعت كل الأطراف بصدق ( نعيم بن مسعود ) , ودب التخاذل في صفوف الأحزاب , ثم كانت مفاجأة الخندق , وتحقق نصر المسلمين .
ومما يذكر أن النبي اعتمد في غزواته وغاراته على القوافل المكية على المعلومات التي كان يزوده بها أعوانه في مكة , بينما لم يكن للكفار من يزودهم بأخبار المسلمين والأنصار في المدينة .
وكان النبي يوصي المسلمين بكتمان أسرارهم , لعلهم يصيبون العدو على غير استعداد , وينتصرون دون سفك دماء أو إزهاق أرواح , كما حدث قبيل فتح مكة , إذ صدر عن رسول الله أمر كريم " أن يحفظ المسلمون أسرارهم , ويضنوا بمخبآت ضمائرهم , لعلهم يصيبون قريشاً على غير استعداد , ويدخلون مكة من غير كيد أو عناد .. فلا يسفك في البلد الحرام دماً , ولا يزهق روحاً , ولا يثير حرباً , ولا يذكى ضرام عداء "
تقرير بشر الخزاعي : ومن نماذج تقارير رجال مخابرات جيش النبي قول ( بشر الخزاعي ) لرسول :
" لقد دلفت إلى قريش أتسقط أسرارها , وأتعرف أخبارها , وما راعني إلا أن خبر مسيرك قد ترامى إليهم , وحديث رؤياك قد هبط عليهم , ولا أدري كيف وقع عليهم الخبر , ولا كيف استنشقوا حديث الرؤيا .. إنهم يا رسول الله خرجوا ومعهم النياق بأولادها , ولبسوا جلود النمور , وعاهدوا أنفسهم ألا تدخل عليهم مكة أبداً .
وهكذا وقبل عصر المعلومات بأكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان
كان هناك من أدرك قيمة المعلومات واستخدمها كجند من الجنود في الحرب
فجعلها المولى عز وجل من أسباب نصر المسلمين الأوائل رغم قلة عددهم