ونحن في موسم التقوى نؤكد
على هذه الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، ولقد كان المثل الأعلى
سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا التلازم
وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما روى
ابن عباس رضي الله عنهما، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس) ،
فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في
الكرم والجود والسخاء.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا.
قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء.
(فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ.
(الريح المرسلة) أي: المطلقة.
فهل تتقسط؟ وهل تأتي شيئاً فشيئاً؟ إنها تأتي مندفعة
قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى صلى الله عليه وسلم، وللأسف
الشديد كذلك نذكر المال الذي ينفق على عكس مراد الله، وعلى عكس هذه الصورة
المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنفاق للصد عن الدين ولإغراق
المسلمين في الغفلة والهوى والشهوة، كما أسلفت في ذلك، وينبغي أن ننتبه إلى
قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وأخبرنا
الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
[البقرة:267] ، والكسب الخبيث الذي نرى صوره -كما قلت- معلنة محرم مقطوع
بحرمته ليس فيه خلاف، وليس هناك تشدد بالقول بحرمته؛ لأن الآيات بذلك نطقت،
والأحاديث بذلك شهدت، ومع ذلك نرى صوره كل عام تتكرر وتزداد، ولعلنا
نستحضر أمراً وإن كان الفارق موجوداً، لكننا نقوله حتى نتعظ ونعتبر: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ، هذه صورة لأهل الكفر.
وللأسف أن بعض أهل الإسلام يوافقونهم في ذات العمل:
{يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تكون
العاقبة مشابهة {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
[الأنفال:36] ، نسأل الله عز وجل السلامة.
وقال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:116] ، هذه صور خطيرة نحذر منها كل من
يشارك فيها، وكل من يسعى لها، حتى المتصل إذا اتصل بهذه القنوات الفاسدة
التي تستخدم الطرائق المحرمة والتي فيها ما فيها، فهو يسهم كذلك بمال في
جانب وعمل وميدان محرم فيكون مشاركاً في الإثم، نسأل الله عز وجل السلامة:
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] ، وقد اشتكى وشكا موسى عليه
السلام من ذلك الحال الذي كان عليه فرعون قوة ومالاً، ثم دعا دعاءه الشهير:
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88] ، وهذه الدعوات التي
نسأل الله عز وجل أن تنصرف عن كل من يتذكر ويتعظ ينبغي أن يحذر منها
الغافلون والسالكون في هذه المسالك الخطيرة ذات العواقب الوخيمة، نسأل الله
عز وجل السلامة.
والحق جل وعلا يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ، فلن يزداد الخير ولن يضاعف أجر،
ولن تكون بركة إلا فيما هو في مرضاة الله، وأما كل ما هو زيادة فيما هو من
الحرام فإنها زيادة سحت له عاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وأظن الشواهد عند
كل أحد كثيرة، ويكفينا في ذلك الوعيد الشديد الوارد في حديث النبي صلى الله
عليه وسلم المروي من طرق شتى: (كل جسم) ، وفي رواية: (كل لحم نبت من سحت
فالنار أولى به) .
نسأل الله عز وجل السلامة.
ونتأمل كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في
حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس
عندنا مال.
ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، يعني:
بعد أن تستغني تصدق بما يزيد.
لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً.
لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا.
إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق فيكتب من
المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا
ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (من
كان له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له، من كان له فضل ظهر فليعد به على
من لا ظهر له، من كان له فضل طعام فليعد به على من لا طعام له، قال: حتى
ظننا أن لا حق لأحد منا فيما فضل من ماله) .
فهذه فرصة عظيمة، وينبغي أن لا نجعل إنفاقنا في شيء مما
حرم الله، وأن نسارع إلى تلك الميادين، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته
ومرضاته