د. خالد السلطاني: ليس ادعاءً، ان اعتبر نفسي، احد مناصري (.. وحتى مروجي!) معرفة "الآخر" المختلف، وفهمه فهما معرفيا عميقاً. واجد في هذا المسعى (النبيل.. ان شئتم)، اثراءا ثقافيا وابستمولوجيا لي، وطبعا للآخرين. واقولها بحسرة، بان "ثقافة معرفة الآخر واحترامه والتعلم منه، غير رائجة في مجتمعاتنا العربية، بل وحضورها لدى كثر يقترن بالغياب، وبعضهم يعتبرها ثقافة "دخيلة"، تنضوي تحت مظلة الحروب "الثقافية" التى تشن علينا بلا هوادة من مختلف الثقافات "الآخرى"!. وكأن التعرف على الآخر والتعلم منه، هو بمثابة سمة سلبية يتعين اجتنابها. وما نراه الآن رائجا في المشهد، هو فائض سطوة الفعل السياسي على كل ما عداه؛ الفعل الداعي بضجيج عال، لرؤية نجاحات الثقافات الاخرى واختزالها في مماحكات سياسية عابرة، تسهم في طمس تلك النجاحات وعدم الاعتراف بها. وهو امر اشرت اليه قبل خمس سنوات، في مقال لي بان ما ".. نقرأه من دعوات وما نسمعه من مفردات، هو في الواقع صدى لتغليب الجزء على الكل، غلبة السياسي على الثقافي؛ وبالتالي فنحن في مأزق حضاري حقيقي، سببه الطروحات الالغائية والتحصن في "مركزيات" متوهمة. والخروج من هذه الحالة ممكن فقط عندما ينصاع الفعل السياسي المبنى على اوهام وتلفيقات مظللة الى سلطة المعرفة، المعرفة الداعية الى تقبل الغيرية في الهوية والمختلف فيما هو مؤتلف، والداعية الى انفتاح الشعوب لا الى انغلاقها".
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
تمنحنا مناسبة اعتبار مدينة "اسطنبول" التركية، عاصمة للثقافة الاوربية لعام 2010، وما سوف يتمخض عنها من دراسات وكتابات تخص "اسطنبول" بشكل خاص والثقافة التركية بشكل عام، الرجوع مرة اخرى، لثيمة "الآخر"، والتأكيد على اهمية المعرفة بها،
في الاقل لادراك قيمة انفسنا وقدر انجازنا الحقيقي، ذلك لان وجود "الآخر"، كما هو معروف، شرطا مهما لتجلي " الذات"!.
وتركيا المجاورة لنا جغرافيا، والقريبة منا ثقافيا.. وتاريخيا، لا نعرف عنها الكثير، وخصوصا في مجال العمران الحديث، مثلما لا نعرف كثيرا، بالمناسبة، عن العمران الحديث في ايران او الهند او الباكستان؛ رغم ان ضرورات المعرفة اياها، مسوغه ومبرره على قدر كبير. ذلك لان تشابه الوقائع الاجتماعية والثقافية، وشبه تماثل الظروف المناخية والتاريخية المؤسسة للقرار التصميمي، يجعل من اطلاع ومعرفة ودراسة وتحليل الشأن العمراني التركي (وغير التركي بالطبع)، امرا غاية في الاهمية، لجميع معماريينا ومصمميينا بغية تلافي اخطاء التجريب، او لجعل الذخيرة التركية نقطة انطلاق لمشاريع تصميمية ناجعة في منطقتنا العربية.
ماهي اشتغالات الخطاب المعماري في تركيا الآن؛ وبمَ هو مهموم عمرانياً؟ فالبلد ذو التاريخ المعماري العريق الحافل بالانجازات التصميمية المرموقة، يتعين ان تكون طبيعة انشغالاته مثيرة ومفيدة وممتعة.. ومقنعة، خصوصا وهو بموقعه الجغرافي المميز كعتبة الى اوربا، وما تفيض به الاخيرة من مقاربات متجددة دوما ومتغيرة دوما، تجعل انشغالاته المعمارية تكتسي اهمية خاصة. لكن تركيا ليست فقط واقعة عند مستهل القارة الاوربية وتخومها، وانما هي ايضاً تحادد دولا وشعوب ذا اثنيات وثقافات متنوعة. فهي تجاور سوريا والعراق وايران واذربيجان وارمينيا وجورجيا واليونان وبلغاريا؛ وهذا كافٍ لان يكون منجزها التصميمي متوافر على غني تكويني فريد. هذا بالاضافة الى تنوع الاثنيات وتعددها المتعايشة على الارض التركية. فمن المعروف ثمة اقليات عديدة تزخر بها الجمهورية التركية مثل: الاكراد والشركس والبوسنيون والالبان والكرج- الجورجيون والعرب والغجر والبوماك واليهود واليونانيون، وكل تلك الاقليات تمتلك تقاليدها البنائية وتراثها المبني، المتخم به المشهد المعماري التركي، مضيفة غنى الى الذخيرة البنائية التركية، والتى من قيمها المأولة، يستقي المعمارييون الاتراك افكارا لصنيع تكويناتهم التصميمة المميزة.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
يغدو فعل الموائمة بين حركة قاطرة الحداثة والتوجه نحو الغرب من جهة، ومراعاة التقاليد والهيمنة الثقافية المحلية من جهة اخرى، بمثابة الحدث الاكثر وضوحا في اهتمامات الخطاب المعماري التركي المعاصر. من هنا فان اشكاليات موضوعة " الهوية" المعمارية لدى المصممين الاتراك، كانت دائما تتطلب منهم ايجاد تفسيرات مقنعة وحلول كفوءة لها، تتناغم مع حضور فعل تلك الموائمة. لم يكن حل تلك الموضوعة دائما صائباً او سهلا. فنماذج التقاليد المعمارية عالية المهنية، المتنوعة والغزيرة المنتشرة في البيئة المبنية، تدفع باتجاه لفت الانظار نحوها، ونحو مفردات لغتها التصميمية، تلك اللغة التى اكتسبت عبر قرون حضورا لافتا، اسس لشرعيتها ومشروعيتها في المشهد. على ان متطلبات الحياة العصرية وموجات التجديد المشغوله بها تركيا الحديثة، والاحتكاك الدائم واليومي مع الحداثة الغربية وقيمها المعمارية، كانت هي الآخرى تتطلع نحو تأسيس نماذجها التصميمية الوافية بتلك المتطلبات والمراعية لاستحقاقات الحداثة المعمارية. وهذه الموضوعة المتناقضة والملحة في آن، وجدت لها حيزاً مؤثراً في موضوعات العدد الخاص من المجلة البريطانية المعروفة "التصميم المعماري" Architectural Design (AD) لشهري كانون الثاني/يناير، وشباط فبراير لسنة 2010 ؛ والمكرس الى عمارة تركيا، والصادر للاحتفاء باسطنبول عاصمة الثقافية الاوربية لعام 2010. (جدير بالذكر ان هيئة تحرير المجلة سبق وان اصدرت عدد نوفمبر- ديسمبر من 2007 خاص بالعمارة الهندية، بعنوان: "صنع في الهند").
تنضوي محتويات العدد الخاص تحت عنوان واحد، دعته ادارة تحرير المجلة بالاتي: "تركيا.. بوصفها عتبة". تستهل المجلة مواضيعها المعمارية والتخطيطية المختلفة بكلمات "نجاتي" الشاعر العثماني:
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
".. ثمة جماليات تحصى بالآلاف،
بيد انها لم تباع.. ولم ترَ.. "