وصف ابن بطوطة لنيل مصر
"ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة، والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمور مثلها ولا يعلم نهر يزدرع عليه ما يزدرع على النيل، وليس في الأرض نهر يسمى بحرا غيره قال الله تعالى : "فإذا خفت عليه فألقيه في اليم"فسماه يَمّاً وهو البحر.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى فإذا في أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان فسأل [ ص207 ]عنها جبريل عليه السلام،فقال : أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات.
وفي الحديث أيضا أن النيل والفرات وسيحان وجيحان كل من أنهار الجنة. ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافا لجميع الأنهار. ومن عجائبه أن ابتداء زيادته فيشدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها، وابتداء نقصه حين زيادة الأنهر وفيضها.
بالجملة فمصر أمُّ البلاد شرقا وغربا لا تستغرب شيئا مما يحكى عنها من خير أو شر، ومصداق ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا من التجار في سنة أربع وستين، قال : دخلنا مصر في حدود الخمسين سكنْتُ في بعض الوكائل، وكان من قدر الله أن اجتمعنا في محل واحد جماعة، منا فلان وفلان تجار وفلان طالب علم وفلان ممن يميل لطريق الفقر، وفلان من أهل المجون، وذكر كلاّ بأسمائهم قال : فإذا أصبحنا تفرقنا كل يغدو لحاجته، فإذا جن الليل جمعَنا المنزل، فنتحدث بما رأينا، فيقول التاجر ما رأينا مثل هذا البلد في التجارة، فأهلها كلهم تجار، ويحكي من حكاية ما شاهد، ويقول الفقيه مثل ذلك، والفقير مثل ذلك، وذو المجون مثل ذلك. وما ذاك إلا لكثرة أجناس الناس فيها، فمن طلب جنسا وجد منه فوق ما يظن، فيظن أن غالب أهل البلد كذلك. وبالجملة، فأهلها لهم عقول راجحة وذكاء زائد. فمن استعملها في الخير، فاق فيه غيره، ومن استعملها في غيره فكذلك. ذكر ابن خلدون في كتابه "كتاب منتهى العبر" أن بعض ملوك المغرب سأل بعض العلماء ممن حج عن مصر. فقال له : أقول لك فيها قولا وأختصر : من المعلوم أن دائرة الخيال أوسع من دائرة الحسّ: فغالب ما يتخيله الإنسان قبل رؤيته إذا رآه وجده دون ما يتخيل، ومصر بخلاف ذلك، كل ما تخيلتَ فيها، فإذا دخلتها وجدتها أكثر من ذلك".