تاااااابع.....ز
منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يد زوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحبّ رجل عربي.
سألته إن كان ذلك حقاً.. أجابني.. "لا أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحب قسنطينة".
وروجيه أيضاً كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال..
وكنت أشعر بمزيج من السعادة والإحراج معاً وأنا أستمع إليه، يقصّ عليّ بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمس ربع قرن من البعد أيّ نبرة فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة!
وكان يزيد إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس لأستقر فيها. فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أن يسهّل عليّ_دون أن أطلب منه_ كثيراً من المعاملات والمشكلات التي تواجه رجلاً في وضعي.
ذات مرة سألته "لماذا لم تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس مازالوا يعرفون أهلك في ذلك الحيّ ويذكرونها بالخير.." أذكر وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس ألا يعرفني الناس هناك، بل ألا أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك الأزقّة.. وذلك البيت الذي لم يعد بيتي منذ عشرات السنين..".
ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالت هناك.. وأنها تعطي تيناً كل سنة، وأن ذلك الشباك مازال يطلّ على ناس كنت أحبهم.. وذلك الزقاق الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب شيء على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها.."
كان في عينيه يومها لمعة دموع مكابرة، فأضاف بشيء من المزاح "لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخاف أن أواجه ذاكرتي وحدي..".
اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كلامه فجأة_ هو الذي لم يطرح معي ذلك الموضوع بعد ذلك أبداً_
تراه نجح حقاً في التحايل على ذاكرته؟
وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم بعدها كل شيء داخلنا كواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة.
أقنعني ذلك المنطق، وشعرت أن هاتف كاترين أنقذني بطريقة غير مباشرة من حماقة كنت على وشك ارتكابها.
لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا أضفت إليها شيئاً هنا، أو طمست فيها شيئاً هناك.. ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزوّرة.. وهل يهم عندئذٍ أن نكون أجمل؟
نظرت إلى خشبة الألوان التي كانت بيدي. فكّرت أنه رغم ذلك لا بد أن أفعل شيئاً بهذه الألوان.. وبهذه الفرشاة العصبية التي كانت تترقّب مثلي لحظة الخلق الحاسمة.
وفجأة وجدت الحلّ في فكرة بسيطة ومنطقيّة لم تخطر ببالي.
رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها لوحة بيضاء جديدة، ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة أخرى، بسماء أخرى، بوادٍ آخر وبيوت وعابرين.
رحت هذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ بها، وكأن أمر الجسر لم يعد يعنيني في النهاية، بقدر ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف عليها. وتلك النباتات التي تبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة (أو عفونة) الأعماق. وتلك الممرات السرية التي حفرتها خطى الإنسان وسط المسالك الصخرية. منذ أيام (ماسينيسا) وحتى اليوم، في غفلة من الجسر العجوز الذي لا يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما يحدث على علو 700 متر من أقدامه!
أليس التحايل على الجسور هو الهدف الأزلي الأول للإنسان الذي يولد بين المنحدرات.. والقمم؟
أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛ وأدهشني أكثر، كون هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذ ربع قرن، يوم رسمت هذا الجسر نفسه لأول مرة.
ترى لأنني كنت في بدايتي الأولى، محكوماً بالخطوط العريضة للأشياء كأيّ مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم يكن يتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك الدكتور_ أو إدهاش نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيدٍ واحدة؟
وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت شيئاً لأحد. أريد فقط أن أعيش أحلامي السرية، وأن أنفق ما بقي لي من وقت في طرح أسئلة.. كان الجواب عليها في الماضي ترفاً.. ليس في متناول الشباب. ولا في متناول.. ذلك المناضل أو المجاهد المعطوب الذي كُنتُه..
ربما لأن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بل كانت وقتاً جماعياً نعيشه بالجملة، وننفقه بالجملة.
كان وقتاً للقضايا الكبرى.. والشعارات الكبرى.. والتضحيات الكبرى. ولم يكن لأحد الرغبة في مناقشة الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة.
تراها حماقة الشباب.. أم حماقة الثورات!
أخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية الأحد، وقسماً كبيراً من الليل. ولكنني كنت سعيداً وأنا أرسم، وكأنني كنت أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي" يعود ليقول لي بعد ذلك العمر "ارسم أحبّ شيء إلى نفسك".
وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها، بالارتباك نفسه.
ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمريناً في الرسم. كان تمريناً في الحبّ.
كنت أشعر أنني أرسمك أنتِ لا غير. أنت بكل تناقضك. أرسم نسخة أخرى عنك أكثر نضجاً.. أكثر تعاريج. نسخة أخرى من لوحة كبرت معك.
كنت أرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل وربَّما بشهوة ورغبة سرية ما..
فهل بدأت شهوتك تتسلّل يومها إلى فرشاتي، دون أن أدري؟!
***
في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعة تماماً.
جاء شلال فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها على وسادتي.
كنت أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد ليلة مرهقة من العمل. شعرت أنه يشرع نوافذ غرفتي، ويقبّلني قبلة صباحية.
- هل أيقظتك.؟
- لا أنت لم توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم لا أكثر!
قلتِ بلهجة جزائرية بين المزاح والجدّ:
- علاش.. إن شاء الله خير..
قلت:
- لأنني رسمت حتى ساعة متأخرة من الليل..
- وما ذنبي أنا؟
- لا ذنب لك سوى ذنب الملهم.. يا ملهمتي!
صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين السيطرة على أعصابك:
- ah.. non!
ثم أضفتِ:
- أتمنى أنك لم ترسمني.. يا لها من كارثة معك!
- وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟
واصلت بصوت عصبي:
- أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها القاعات من مدينة إلى أخرى، يتفرّج عليها كل من يعرفني؟!
كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما من فرط سعادتي، وربما لأنني مجنون حقاً، ولا أعرف كيف أكون سعيداً مثل الآخرين.
قلت لك:
- أما قلتِ مرّة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر، وأنهم ليسوا سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك لا يعني شياً، سوى أنني صادفتك يوماً في طريقي لا غير!
صحت:
- أأنتَ أحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع الآخرين أنك رسمتني بعدما صادفتني مرة على رصيف، واقفة مثلاً أمام ضوء أحمر.. إننا لا نرسم سوى ما يثيرنا.. أو ما نحبه.. هذا معروف!
تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك الاعتراف، وتدورين حوله، أم كنت من الحماقة لتصدّقي زعمي بأنني لا أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة الصباحية، وفي ذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقرّبني منك في آن واحد.. مناسبة لمصارحتك.
قلت:
- لنفترض إذن أنني أحبّك.!
كنت أنتظر وقع الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة لكلامي. ولكنك قلت بعد لحظة صمت:
- ولنفترض إذن.. أنني لم أسمع!
أدهشتني..
لم أفهم تماماً إذا كنت تجيدين ذلك "التصريح" أقل أو أكثر مما توقعت، أم أنك كعادتك تتلاعبين بالكلمات بمتعة مدهشة، وأنت تدرين أنك تلعبين بأعصابي لا غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل آخر.
- أين نلتقي؟
كان هذا هو السؤال الأهم الذي قررنا أن نجيب عليه بجدية.
تناقشنا طويلاً في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب فيه قهوة، أو نتناول فيه وجبة الغداء معاً.
ولكن باريس ضاقت بنا.
كنت لا تعرفين غير الأماكن التي يرتادها الطلبة. وكنت لا أرتاد غير المقاهي القريبة من حييّ. قررنا أن نلتقي في أحد المقاهي المجاورة لبيتي والتي تقدم وجبات غداء.
وكنت أقترف إحدى حماقاتي الكبرى.
لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.
لم أعد أذكر الآن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا. وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا، بعدما تعوّد أن يختار لنا زاوية جديدة كلّ مرة، تتلاءم مع مزاجنا المتقلّب، خلال شهرين من السعادة المسروقة..
كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار، وحسب ساعات دراستك وبرنامج أعمالي.
تعودت أن تطلبيني هاتفياً كل صباح في الساعة التاسعة، وأنت في طريقك إلى الجامعة. ونتّفق كل صباح على برنامج لك اليوم الذي لم بعد لنا فيه في النهاية من برنامج سوانا.
كنت أتدحرج يوماً بعد آخر نحو هاوية حبّك، أصطدم بالحجارة والصخور، وكل ما في طرقي من مستحيلات. ولكنني كنت أحبك. ولا أنتبه إلى آثار الجراح على قدمي، ولا إلى آثار الخدوش على ضميري الذي كان قبلك إناء بلّور لا يقبل الخدش. وكنت أواصل نزولي معك بسرعة مذهلة نحو أبعد نقطة في العشق الجنوني.
وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبّك. على الأقل حتى تلك الفترة التي كنت مكتفياً فيها بحبك، بعدما أقنعت نفسي أنني لا أسيء إلى أحد بهذا الحب.
وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت تكفيني تلك العاطفة الجارفة التي تعبرني لأول مرة، بسعادتها المتطرفة أحياناً, وحزناه المتطرف أحياناً أخرى..
كان يكفيني الحب.
متى بدأ جنوني بك؟
يحدث أن أبحث عن ذلك التاريخ وأتساءل.. ترى أفي ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة؟ أم في ذلك اليوم الذي انفردت بك فيه لأول مرّة؟ أم في ذلك اليوم الذي قرأتك فيه لأول مرة؟.
أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، لأرسم فيه قسنطينة.. كأول مرة!
ترى يوم ضحكتِ أم يوم بكيت.
أعندما تحدَّثتِ.. أم عندما صمتِّ.
أعندما أصبحتِ ابنتي.. أم لحظة توهَّمت أنك أمي؟!
أيّ امرأة فيك هي التي أوقعتني؟.
كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الدمية الروسية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا تكون سبع دمى داخل واحدة!
كنت كلّ مرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بكِ تأخذين في بضعة أيام ملامح كل النساء. وإذا بي محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن عليّ في حضورك وفي غيابك، فأقع في حبّهن جميعاً.
أكان يمكن لي إذن أن أحبّك بطريقة واحدة؟
لم تكوني امرأة.. كنت مدينة.
مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهنَّ وفي ملامحهن؛ في ثيابهنَّ وفي عطرهنَّ؛ في خجلهنَّ وفي جرأتهنَّ؛ نساء من قبل جيل أمي إلى أيامك أنتِ.
نساء كلهن أنتِ.
عرفت ذلك بعد فوات الأوان. بعدما ابتلعتني كما تبتلع المدن المغلقة أولادها.
كنت أشهد تحولك التدريجي إلى مدينة تسكنني منذ الأزل..
كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوماً بعد يوم ملامح قسنطينة، تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها وذاكرتها ومغاراتها السرية، تزورين أولياءها، تتعطرين ببخورها، ترتدين قندورة عنّابي من القطيفة، في لون ثياب "أمّا"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد أسمع وقع خلخالك الذهبي يرنّ في كهوف الذاكرة.
أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين للأعياد.
وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا "تساء" على الطريقة القسنطينية.
كنت أناديك مدلّلاً "يالا" كما لم يعد الرجال ينادون النساء في قسنطينة.
كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته قسنطينة دون غيرها، عن أهل قريش من عصور.
وكنت، كنت عندما يجرّدني عشقك من سلاحي الأخير، أعترف لك مهزوماً على طريقة عشاقنا "نِشتيك.. يعن بُو زَيْنِك!".
تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي اختصروها منذ زمان لتخفي معناها الأصلي، وتتحول إلى كلمة ودّ لا غير.
فقسنطينة مدينة منافقة، لا تعترف بالشهوة ولا تجيز الشوق؛ إنما تأخذ خلسة كل شيء، حرصاً على صيتها، كما تفعل المدن العريقة.
ولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضاً.. والسرّاق!
ولم أكن سارقاً، ولا كنت وليّاً، ولا شيخاً يدّعي البركات، لتباركني قسنطينة.
كنت فقط، رجلاً عاشقاً، أحبك بجنون رسّام؛ بتطرف وحماقة رسام، خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها، وتقديم القرابين لها.
وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبّينه في حبّي!
ذات يوم قلت لي:
كنت أحلم أن يحبّني رسّام. قرأت عن الرسامين قصصاً مدهشة. إنهم الأكثر جنوناً بين كلّ المبدعين. إنّ جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. لا يشبه في شيء ما يُقال عن الشعراء مثلاً أو عن الموسيقيين. لقد قرأت حياة فان غوغ.. دولاكروا.. غوغان... دالي.. سيزان.. بيكاسو وآخرين كثيرين لم يبلغوا هذه الشهرة. أنا لا أتعب من قراءة سيرة الرسّامين.
في الواقع شهرتهم لا تعنيني بقدر ما يعنيني تقلّبهم وتطرّفهم. تهمني تلك اللحظة الفاصلة بين الإبداع والجنون. عندما يعلنون فجأة خروجهم عن المنطق واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحقّ التأمل والانبهار أحياناً، فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدّينا وتعجيزنا بلوحة ليست سوى حياتهم.
هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقريَّتهم في إنتاجهم. وهنالك آخرون، يصرّون على توقيع حياتهم أيضاً، بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة فريدة، غير قابلة للتكرار أو التزوير..
أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. ولا أظن أن شاعراً يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه فان غوغ مثلاً في لحظة يأس واحتقار للعالم، عندما قطع أذنه ليهديها إلى غانية..
أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد أذكر اسمه، والي شنق نفسه، بعدما علَّق في سقف غرفته، لوحة المرأة التي أحبها والتي قضى أياماً في رسمها. وهكذا توحّد معها على طريقته.. ووقّع لوحته وحياته معاً مرة واحدة.
قلتُ:
- إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة على تعذيب أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس كذلك؟.
أجبتِ:
- لا.. ولكن هنالك لعنة ما تلاحق الرسامين دون غيرهم؛ وهنالك جدلية لا تنطبق إلا عليهم. فكلّما زاد عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم. حتى إن موتهم يوصلها إلى أسعار خيالية، وكأن عليهم أن ينسحبوا لتحلّ هي مكانهم.
لم أناقشك في رأيك.
رحت أستمع إليك وأنت ترددّين كلاماً أعرفه، ولكن فاجأني منك.
لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني لاحتمال جنوني، أو لشيء آخر. ولا أن تكون نيّتك اللاشعورية تحويلي إلى لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي.
هل سيزيد عذابي حقاً، من قيمة أية لوحة سأرسمها كيفما كان، تحت تأثير جوعي أو نوبة جنوني؟
اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفنّ ترى؟.. وأين تبدأ النزعة السادية عند الآخرين؟
كنت أعتقد أن هذه الجدلية لا علاقة لها بالإبداع ولا بالفن، وإنما بطبع الإنسان لا أكثر.
نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات الآخرين، ونعتقد، عن أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء ليصلب مكاننا.
عذابه يحزننا و يسعدنا في آن واحد. قصّته قد تبكينا، ولكنها لن تمنعنا من النوم، ولن تدفعنا إلى إطعام فنان آخر، يموت جوعاً أو قهراً أمامنا. بل إننا نجد من الطبيعي أن تتحول جراح الآخرين إلى قصيدة نغنيها، أو لوحة نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسبب نفسه.
فهل الجنون قُصر حقاً على الرسامين دون غيرهم؟
أليس هو قاسماً مشتركاً بين كلِّ المبدعين، وكل المسكونين بهذه الرغبة المرضيّة في الخلق؟
فالذي لا يمكن بحكم منطق الإبداع نفسه، أن يكون إنساناً عادياً، بأطوار عادية وبحزن وفرح عاديّ. بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة والتعاسة.
إنه إنسان متقلّب، مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد مبرراً لسلوكه.
كان ذلك أول يوم حدّثتك فيه عن زياد.
قلت:
- لقد عرفت شاعراً فلسطينياً كان يدرس في الجزائر. كان سعيداً بحزنه وبوحدته؛ مكتفياً بدخله البسيط كأستاذ للأدب العربي، وبغرفته الجامعية الصغيرة، وبديوانين شعريّين. حتى ذلك اليوم الذي تحسّنت أحواله المادية، وحصل على شقة وكان على وشك الزواج من إحدى طالباته التي أحبّها بجنون، والتي قبل أهلها أخيراً تزويجها منه.
عندما قرّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي..
عبثاً حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته تلك، وإصراره على الرحيل عندما أوشك أخيراً أن يحقق أحلامه. وكان يجيب ساخراً "أيّ أحلام.. أنا لا أريد أن أقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشرّد.. فعندها لن يكون لأيّ شيء أمتلكه من قيمة..".
ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي خلفه كي يبوح لي بسرٍّ: "ثم.. لا أريد أن أنتمي لامرأة.. أو إذا شئت لا أريد أن أقيم فيها.. أخاف السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق للشعراء..".
وكانت الفتاة التي أحبّته تزورني راجية أن أقنعه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب إلى الموت وإلى حتفه المؤكد. ولكن عبثاً، لم تكن هناك حجة واحدة لإغرائه بالبقاء.. بل إنه في تطرفه المفاجئ، أصبح يجد في حججي ما يزيده إغراءً بالرحيل.
أذكر أنه قال لي يومها بشيء من السخرية، وكأنه يعطيني درساً في الحياة:
"هناك عظمة ما، في أن نغادر المكان ونحن في قمة نجاحنا. إنه الفرق بين عامة الناس.. والرجال الاستثنائيين!".
سألتك إن كنت تعتقدين أنّ شاعراً كهذا، هو أقلّ جنوناً من رسام قطع أذنه؟
لقد استبدل براحته شقاءً لم يكن مرغماً عليه. واستبدل بحياته موتاً، دون أن يكون مجبراً عليه.
لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابراً وليس مهزوماً ومكرهاً. إنها طريقته في أن يهزم مسبقاً شيئاً لا يُهزم، وهو الموت.
سألتني بلهفة:
- هل مات؟
قلت لك:
- لا.. إنه لم يمت.. أو على الأقل مازال على قيد الحياة حتى تاريخ بطاقته الأخيرة التي بعث إليّ بها في رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريباً.
ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن أفكارنا معاً ذهبت إليه..
قلت لك:
- أتدرين أنه كان سبباً غير مباشر في مغادرتي الجزائر؟ معه تعلّمت أنه لا يمكن أن نتصالح مع كل الأشخاص الذين يسكنوننا، وأنه لا بد أن نضّحي بأحدهم ليعيش الآخر. وأمام هذا الاختبار فقط نكتشف طينتنا الأولى، لأننا ننحاز تلقائياً إلى ما نعتقد أنه الأهم.. وأنه نحن لا غير.
قلت وأنت تقاطعينني:
- صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى فرنسا؟
أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر أوصدته الخيبات:
- قد لا تقنعك أسبابي.. ولكنني مثل ذلك الصديق، أكره الجلوس على القمم التي يسهل السقوط منها. وأكره خاصة أن يحولني مجرد كرسي أجلس عليه إلى شخص آخر لا يشبهني.
لقد كنت بعد الاستقلال أهرب من المناصب السياسية التي عرضت عليّ، والتي كان الجميع يلهثون للوصول إليها.
كنت أحلم بمنصب في الظل يمكن أن أقوم فيه بشيء من التغيرات دون كثير من الضجيج ودون كثير من المتاعب. ولذا عندما عيّنت كمسؤول عن النشر والمطبوعات في الجزائر، شعرت أنني خلقت لذلك المنصب. فقد قضيت كلّ سنوات إقامتي في تونس في تعلّم العربية والتعمق فيها، وتجاوز عقدتي القديمة كجزائري لا يتقن بالدرجة الأولى سوى الفرنسية. وأصبحت، في بضع سنوات، مزدوج الثقافة، لا أنام قبل أن أبتلع وجبتي من القراءة بإحدى اللغتين.
كنت أعيش بالكتب ومع الكتب. حتى إنني كدت في فترة ما أنتقل من الرسم إلى الكتابة، خاصة أن الرسم، كان في نظر البعض آنذاك، شبيهاً بالشذوذ الثقافي، وعلامة من علامات الترف الفني، التي لا علاقة لها بظروف التحرير.
عندما عدت إلى الجزائر بعدها، كنت ممتلئاً بالكلمات.
ولأن الكلمات ليست محايدة، فقد كنت ممتلئاً كذلك بالمثل والقيم، ورغبة في تغيّر العقليات والقيام بثورة داخل العقل الجزائري الذي لم تغير فيه الهزات التاريخية شيئاً.
ولم يكن الوقت مناسباً لحلمي الكبير الذي لا أريد أن أسمّيه "الثورة الثقافية". بعدها لم تعد هاتان الكلمتان مجتمعتين أو متفرقتين تعنيان شيئاً عندنا.
كانت هناك أخطاء كبرى تُرتكب عن حسن نية. فلقد بدأت التغيرات بالمصانع، والقرى الفلاحية والمباني والمنشآت الضخمة، وترك الإنسان إلى الأخير.
فكيف يمكن لإنسان بائس فارغ، وغارق في مشكلات يومية تافهة، ذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين، أن يبني وطناً، أو يقوم بأية ثورة صناعية أو زراعية، أو أية ثورة أخرى؟
لقد بدأت كلّ الثورات الصناعية في العالم من الإنسان نفسه، ولذا أصبح اليابان (ياباناً) وأصبحت أوربا ما هي عليه اليوم.
وحدهم العرب راحوا يبنون المباني ويسمّون الجدران ثورة. ويأخذون الأرض من هذا ويعطونها لذاك، ويسمّون هذا ثورة.
الثورة عندما لا نكون في حاجة إلى أن نستورد حتى أكلنا من الخارج.. الثورة عندما يصل المواطن إلى مستوى الآلة التي يسيّرها.
كان صوتي يأخذ فجأة نبرة جديدة، فيها كثير من المرارة والخيبة التي تراكمت منذ سنين. وكنت تنظرين إليّ بشيء من الدهشة وربما من الإعجاب الصامت، وأنا أحدثك لأول مرة عن شجوني السياسية.
سألتني:
- ألهذا جئت إلى فرنسا إذن؟
قلت:
- لا.. ولكنني جئت ربما بسبب أوضاع هي نتيجة أخطاءٍ كهذه، لأنني ذات يوم قرّرت أن أخرج من الرداءة، من تلك الكتب الساذجة التي كنت مضطراً إلى قراءتها ونشرها باسم الأدب والثقافة، ليلتهمها شعب جائع إلى العلم.
كنت أشعر أنني أبيعه معلّبات فاسدة مرّ وقت استهلاكها. كنت أشعر أنني مسؤول بطريقة أو بأخرى عن تدهور صحته الفكرية، وأنا ألقّنه الأكاذيب بعدما تحوّلت من مثقف إلى شرطي حقير، يتجسّس على الحروف والنقاط، ليحذف كلمة هنا وأخرى هناك.. فقد كنت أتحمل وحدي مسؤولية ما يكتبه الآخرون.
كنت أشعر بالخجل وأنا أدعو أحدهم إلى مكتبي لإقناعه بحذف فكرة أو رأي كنت أشاركه فيه.
ذات يوم، زارني زياد.. ذلك الشاعر الفلسطيني الذي حدّثتك عنه، والذي لم أكن التقيت به من قبل.
وكنت اتصلت به لأطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو لي قاسية تجاه بعض الأنظمة.. وبعض الحكام العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم بتلميح واضح، ناعتاً إياهم بكل الألقاب.
لم أنسَ أبداً نظرته ذلك اليوم.
توقّفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة مهينة وقال:
" لا تبتر قصائدي سيّدي.. ردّ لي ديواني، سأنشره في بيروت".
شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني على وشك أن أنهض من مكاني لأصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته وكلماته الاستفزازية.
ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟
ترى هويّته الفلسطينية، أو تلك الشجاعة التي لم يواجهني بها كاتب قبله، أم ترى عبقريّته الشعرية؟ فقد كان ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في ذلك الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء كالأنبياء هم دائماً على حق.
تلقَّيت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئاً من سنوات سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوّهة مثلي؟
قلت له متحدياً، وأنا ألقي نظرة غائبة على غلاف تلك المخطوطة: "سأنشره لك حرفياً".
كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو الشجاعة التي كان لا يمكن لموظف مهما كان منصبه أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته، لأن الموظّف في النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيّاً!
سبب لي ديوانه عند صدوره بعض المتاعب. شعرت أن هناك شيئاً من الزيف الذي لم أتحمّله.
ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا باسم الصمود ووحدة الصفّ، نصمت على جرائمها؟ ولماذا من حقّنا أن ننتقد أنظمة دون أخرى حسب النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان بواخرنا؟
بدأ شيء من اليأس والمرارة يملأني تدريجياً. هل أغير وظيفتي لأستبدل بمشكلاتي مشاكل أخرى، وأصبح هذه المرة طرفاً في لعبة أخرى؟
ماذا أفعل بكل ما كدّست وجمعت من أحلام طوال سنوات غربتي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي الأربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي الأخرى؟
ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر العنيد الذي يسكنني، ويرفض أن يساوم على حريته، وبذلك الرجل الآخر الذي لا بد أن يعيش ويتعلم الجلوس على المبادئ.. ويتأقلم مع كل كرسي.
كان لا بد أن أقتل أحدهما ليحيا الآخر... وقد اخترت.
كان لقائي بزياد منعطفاً في حياتي.
اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيراً ما تبدأ بالمواجهة والاستفزاز واختبار القوى.
فلا يمكن لرجلين يتمتع كلاهما بشخصية قوية وبذكاء وحساسية مفرطة، رجلين حملا السلاح في فترات من حياتهما.. وتعودّا على لغة العنف والمواجهة، أن يلتقيا دون تصادم.
وكان لا بد لنا من ذلك الاصطدام الأول.. وذلك التحدي المتبادل لنفهم أننا من طينة واحدة.
بعدها أصبح زياد تدريجياً صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقاً.
كان نلتقي عدة مرات في الأسبوع، نسهر ونسكر معاً، نتحدث طويلاً عن السياسة، وكثيراً عن الفنّ، نشتم الجميع ونفترق سعيدين بجنوننا.
كنا في سنة 1973. كان عمره ثلاثين سنة، وديوانين، ما يقارب الستِّين قصيدة، وما يعادلها من الأحلام المبعثرة.
وكان عمري بعض اللوحات، قليلاً من الفرح وكثيراً من الخيبات، وكرسيين أو ثلاثاً، تنقّلت بينها منذ الاستقلال، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة.. وبمذاق غامض للمرارة.
ذات يوم، رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثلاثة. عاد إلى بيروت لينضمّ إلى الجبهة الشعبية التي كان منخرطاً فيها قبل قدومه إلى الجزائر.
ترك لي كلّ كتبه المفضّلة والتي كان ينقلها من بلد إلى آخر. ترك لي فلسفته في الحياة، وشيئاً من الذكريات، وتلك الصديقة التي كانت تزورني أحياناً لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب لها، وكانت ترفض أن تنساه.
قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل:
- ولماذا لم يكتب لها؟
قلت:
- ربما لأنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان يريد أن تنساه وتتزوج بسرعة، كان يريد لها قدراً آخر غير قدره.
سألتني:
- وهل تزوجت؟
قلت:
- لا أدري.. لقد فقدت أخبارها منذ عدة سنوات، ومن الأرجح أن تكون تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من الجمال. ولكن لا أعتقد أن تكون قد نسيته، من الصعب على امرأة عرفت رجلاً مثل زياد أن تنساه..
شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيداً في أفكارك.
تراك كنت قد بدأت تحلمين به؟
تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو الأخرى، وأنا أردّ بعد ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، بأجوبة تثير فيك فضول الأنثى والكاتبة في آن واحد؟
حدّثتك عن قصائده كثيراً، وعن ديوانه الأخير، الذي كتب قصائده كما يطلق بعضهم الرصاص في الأعراس والمآتم ليشيّعوا حبيباً أو قريباً.
كان هو يشيّع صديقاً قديماً اسمه الشعر، ويقسم أنه لن يكتب بعد اليوم سوى بسلاحه.
في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغ رشاشه المحشو غضباً وثورة في وجه الكلمات.
كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق في شيء!
آخ.. كم كان زياد مدهشاً!
لا بد أن أعترف اليوم أنه كان مدهشاً حقاً، وأنني كنت أحمق. كان لا بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال لا تلتقي..
لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟
أكنت أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خلاله أن لي قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر بذلك في عينيك؟
أم كنت أصفه لك في صورته الأجمل، لأنني كنت أعتقد حتى ذلك اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي لا غير..
ربما كان كل هذا حقاً.. ولكن..
كنت أريد أيضاً، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب هذه الأمة.
رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاً لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه وعروبته..
جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه الأمة.
كنت لا أريد أن تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقّبة للآثار والذكريات، في مساحة مدينة واحدة.
فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر..
وكان يمكن أن تكون لك قرابة به.
كنت أريد أن تملأي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين معهم من مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية.
ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو عرفتِ رجالاً مثل زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق أبطال وهميين. هنالك في هذه الأمة أبطال جاهزون بفوقون خيال الكتّاب..".
لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحوّل ذات يوم إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منّا أحببت أكثر، ولمن بنيت ضريحك الأخير، وروايتك الأخيرة..
ألي.. أم له؟
في ذلك اليوم، وضعتِ فجأة قبلة على خدّي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب:
" خالد.. انحبك.."
توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن وقتها أن أحتضنك، أو أقبّلك.. أو أردّ عليك بألف.. ألف أحبك أخرى.
ولكنني جلست من دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني:
" لماذا اليوم بالذات؟"
أجبتني بصوت خافت:
- لأنني اليوم أحترمك أكثر. إنها أول مرة منذ ثلاثة أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه الأسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاً عن الشهرة أو الكسب لا أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من الصفر هنا..
قاطعتكِ مصحِّحاً لكلامك:
- لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من قناعاتي.
شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من علاقتنا، وأنك عجينة تأخذ فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحلامي القادمة.
تذكّرت جملة قرأتها يوماً في كتاب عن الرسم لأحد النقّاد تقول:
"إنّ الرسام لا يقدم لنا من خلال لوحته صورة شخصيّة عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاً عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة لملامحه القادمة".
وكنتِ أنتِ مشروعي القادم.
كنت ملامحي القادمة، ومدينتي القادمة. كنت أريدك الأجمل، أريدك الأروع.
كنت أريد لك وجهاً آخر، ليس وجهي تماماً، وقلباً آخر، ليس قلبي، وبصمات أخرى، لا علاقة لها بما تركه الزمن على جسدي وروحي من بصمات زرقاء.
يومها عرضت عليك بعد شيء من التردّد، أن تزوري ذات يوم مرسمي، لأريك ما رسمته في الأيام الأخيرة.
وكنت سعيداً أن تقبلي عرضي دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على ألا تسيئي الظنّ بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك العرض نهائياً إذا ما ضايقك.
ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عُرض عليها زيارة مدينة للألعاب:
- أو... رائع يسعدني حقاً أن أزوره!
في اليوم التالي، طلبتني هاتفياً لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني خلالهما.
وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن.
أنت في بيتي.. أحقاً سيحدث هذا؟
أحقاً ستدقّين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه الأريكة، ستمشين هنا أمامي.
أنتِ.. أخيراً أنتِ؟
أخيراً سأجلس إلى جوارك، وليس مقابلاً لك. أخيراً لن يلاحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تلاحقنا عيون روّاد المقهى، ولا عيون الغرباء من المارة.
أخيراً يمكننا أن نتحدث، أن نحزن ونفرح، دون أن يكون من شاهد على تقلباتنا النفسية.
رحت من فرحي أشرع الباب لك مسبقاً، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع.
أيّ جنون كان.. أن آتي بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السريّ الآخر، أن أحوّلك إلى جزء من هذا البيت.
هذا البيت الذي أصبح جنّتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي بعدك.
أكنت عندئذٍ أعي كلّّ هذا؟ أم كنت سعيداً وأحمق كأيّ عاشقٍ لا يرى أبعد من موعده القادم؟
تساءلت بعدها.. إن كنت حقاً لا أريد غير إطلاعك على لوحتي الأخيرة.. وعلى حديقتي السرّيّة للجنون.
تذكّرت كاترين، وتلك اللوحة التي رسمتها لها اعتذارا لأنني ذات يوم، كنت عاجزاً عن أن أرسم شيئاً آخر غير وجهها، بينما كان الآخرون يتسابقون في رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون الجميلة.
تذكّرت يوم عرضت عليها أن تزورني لأريها تلك اللوحة..
لم أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباً بعد ذلك في علاقة غير بريئة دامت سنين.
أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلّة التعقّل، ورغبة سرية لاستدراج الظروف لأشياء أخرى؟
تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، وهي تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء المتّكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة:
- هذا مكان يغري بالحب..
فأجبتها بشيء من الواقعية:
- لم أكن أعرف هذا قبل اليوم..
فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية ما تغري بالجنون؟
ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيّ جنون..
اليوم، بعد ستّ سنوات على تلك الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هزّاته النفسية المتقلبة.
ها أنت تدخلين في فستان أبيض (لماذا أبيض؟)، يسبقك عطرك إلى الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك.
ها أنا أكاد أضع قبلة على خدك.. وإذا بي أصافحك (لماذا أصافحك؟).
أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية (لماذا أيضاً بالفرنسية؟) تراني كنت أبحث عن حرّيّة أو جرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟
على تلك الأريكة جلستِ.
قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس:
- لم أكن أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق!
سألتك:
- كيف كنت تتصورينه إذن؟
أجبتني:
- بفوضى.. وبأشياء أكثر.
قلت لك ضاحكاً:
- لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبّرة، بأشياء كثيرة مبعثرة لأكون فنّاناً. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسّامين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من الترتيب داخلي.
لقد اخترت هذه الشقة الشاهقة، لأن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة لا تؤثث بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل والألوان.
فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة، ودعوتك للخروج إلى الشرفة.
قلت:
- انظري هذه النافذة، إنها الجسر الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس المتقلّبة.
كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة لأتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر.
يحدث كثيراً أن أرسم أمام هذه النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج لأتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح بدموع مدينة تحترف البكاء.
يحلو لي الجلوس هنا على حافّة المطر قريباً ومحمياً منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني لأحاسيس متطرفة.
" إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر"
عندئذٍ، نظرت إلى السماء وكأنك تصلين لتمطر، وقلت بالعربية:
- إن المطر يغريني بالكتابة.. وأنت؟
وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب".
نظرت طويلاً إلى السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران.
كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما لأنني تعودت أن أراها رمادية.
وربما لأنني تمنيت في سرّي، لو أمطرت لحظتها؛ لو تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة.
ولم أقل لك شيئاً من كل هذا.
نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.
كنت أراهما لأول مرة في الضوء. شعرت أنني أتعرف عليهما.
ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما أجمل من العادة.
كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من البراءة، والمؤامرة العشقية..
تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف الجواب مسبقاً:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
كان صوتك بالعربية يأتي كموسيقى عزف منفرد.
وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
سألتني مدهوشة:
- أتعرف شعر السياب أيضاً؟. عجيب!
قلت في جواب مزدوج:
- أعرف "أنشودة المطر".
عرت أنك ربما أحببتني أكثر تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في نظرك السيّاب أيضاً.
وككل مرة أفاجئك فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني:
- متى قرأت هذا؟
أجبتك هذه المرة:
- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.
بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:
- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟
قلت:
- إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراً أن " أبولينير" قد خلّد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مولعاً به. إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب. بعضهم خلّد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوماً، وثالث مدينة عبرها مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى الأبد.
سألتني:
- وهل رسمت أنت هذا الجسر؟
- أجبتك متنهداً:
- لا.. لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما ما رأيناه يوماً ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبداً. وهكذا قضى (دولاكروا) عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى (أطلان) عمره في رسم مدينة واحدة.. هي قسنطينة.
لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابلاً لهذه النافذة، لأرسم بشيء من التوتر الاستثنائي لوحتي الأخيرة.
كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى.
وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. لا غير. وأدركت أننا في النهاية لا نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا.
سألتني بلهفة:
- هل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟
قلت وأنا أقودك إلى مرسمي:
- طبعاً.
وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة الملأى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضاً بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت بالانبهار نفسه:
- كم هو رائع كلّ هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسماً قبل اليوم..
كنت أودّ أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل اليوم".
ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكّرتني بمرور امرأة أخرى من هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلتِ فجأة:
- وأين هي اللوحة التي حدّثتني عنها؟
أخذتك إلى الطرف الآخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات الأخرى المبعثرة حولها.
هنالك علاقة عشقية ما بين أيّ رسام ولوحته الأخيرة. هنالك تواطؤ عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء.
فالرسام مثل الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للّون الأبيض، واستدراجه إياه للجنون الإبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء.
كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي اللون الأبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟
ولماذا، رفضت أن أرسم شيئاً بعد لوحتي هذه، وفضّلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، لأشهد لها أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو جدار كما تحال عشيقة عابرة.
أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم تعطنيه حتى النساء؟
ربما.. لأنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماً.. مع الوطن!
قلت وأنت تتأملينها:
- إنها مشابهة للوحتك الأولى "حنين" ولكنها تختلف عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في الألوان الترابية الخام التي استعملتها، إنها تعطيها نضجاً.. وحياة أكثر.
قلت وأنا أنقل نظري منها إليك:
- لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنتِ.
- أنا؟
- أتذكرين يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل لأرسمك. اتّهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت ملامحك. لا تخافي، لن أرسمك أبداً ولن يعرف أحد أنك عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة أيضاً.
وأضفت:
أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا..
قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة كاترين:
- وهي؟
كان في سؤالك شيء من عناد الأطفال وأنانيتهم، وشيء من عناد النساء وغيرتهنّ.
قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من الأرض:
- هل تزعجك هذه اللوحة حقاً؟.
أجبت بشيء من الكذب الواضح:
- لا..
واصلت وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون:
- إذا شئت سأتلفها أمامك..
صحت:
- لا، أأنت مجنون!
قلت بهدوء:
- لست مجنوناً.. وهذه اللوحة لا تعني شيئاً بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة عابرة.
قلتِ بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها:
- إنها مدينتك الأخرى.. أليس كذلك؟
من أين جئت بتلك الرصاصة الأخيرة، لتطلقيها على تلك اللوحة؟
اعترفت لك بتلميح واضح:
- لا.. ليست مدينتي، إنها وسادتي الأخرى.. أو إذا شئت سريري الآخر فقط!
شعرت أن شيئاً من الحمرة قد علا وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على ملامحك التي تغيّرت في لحظات.
ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك:
-... لا يهم!
قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك:
- لا تغاري من هذه اللوحة. هنالك امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه..
نظرت نحو المكان الذي أشرت إليه. كان ثمّة تمثال ينتصب على الأرض في حجم امرأة.
قلت بتعجّب:
- هذه.. لماذا هذه؟
قلت:
- لأنها المرأة الوحيدة التي ارتحت لها حتى الآن، والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي. كنت في السابق أملك منها نسخة مصغرة. وقررت منذ سنتين أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه الأكبر.
كانت تلك إحدى نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على اقتنائها، إنها تشبهني كثيراً. أنا بذراع واحدة وهي بلا ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة مختلفة، لأسباب مختلفة. ولكننا صامدان معاً، لن تمنعنا عاهتنا من الخلود.
لم تعلّقي على كلامي.
يبدو أنك لم تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال لامرأة، ضرب من الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان الرجل رسّاماً، وكانت المرأة فينوس لا غير!
المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة بالعبقرية التي تلامس الجنون. ولكنك كنت أعقل من أن تكشفيها. ولذا كلما أردت أن أعطيك دليلاً على جنوني، لم تكوني تصدقيني تماماً.
رحتِ فقط بحماقة أنثى، تسترقين النظر إلى لوحة كاترين، وكأنها وحدها تعنيك. ورحت أنا أحاول فهمك.
ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في تلك اللحظة بيننا بحضورها الصامت الذي يذكّرك بمرور امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة تلك المرأة، والإغراء الاستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف خصلات شعر فوضوي؟
أكنت تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون من حقك أن تعاتبيني على لوحة واحدة رسمتها لامرأة، دون أن يكون لي الحق في أن أحاسبك على كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك الرجل الذي عذّبتني به صدقاً أم كذباً؟
عادت عيناك إلى اللوحة الأخيرة. تأملتها قليلاً ثم قلت:
- إذن هذه.. أنا!
قلت:
- ربما لم تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه المدينة؛ من استدارة جسورها، من شموخها، من مخاطرها، من مغارات وديانها، من هذا النهر الزبديّ الذي يشطر جسدها، من أنوثتها وإغرائها السري ودوارها.
قاطعتني مبتسمة:
- أنت تحلم.. كيف يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين هذا الجسر؟
كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري أنني لا أحب سوى الجسور الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في بطاقات نهاية السنة، مرشوشة بالثلج والفضة، تعبرها العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة المعلّقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. لا أكر أنني عبرتها مرة واحدة راجلة، أو حاولت مرة واحدة النظر منها إلى أسفل.. إلا شعرت بالفزع والدوار.
قلت:
- ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة السقوط الذي لا يقاوم؛ هو التفرج على العالم من نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة، التي تجذبك للأسفل والأعلى في وقت واحد، لأن السقوط دائماً أسهل من الوقوف على قدمين خائفتين! أن أرسم لك جسراً شامخاً كهذا، يعني أن أعترف لك أنك دواري. إنه ما لم يقله لك رجلٌ قبلي.
أنا لا أفهم أن تحبّي قسنطينة وتكرهي الجسور؛ وتبحثي عن الإبداع، وأنت تخافين الداور. لولا الجسور لما كانت هذه المدينة. ولولا شهقة الدوار، لما أحبّ أحد.. أو أبدع.
كنت تستمعين إليّ، وكأنك تكتشفين شيئاً لم تنتبهي له من قبل برغم بساطته.
غير أنك قلت:
- ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل لو رسمتني أنا وليس هذا الجسر. إن أي امرأة تتعرف على رسام، تحلم في سرّها أن يخلّدها، أن يرسمها هي.. لا أن يرسم مدينتها؛ تماماً كما أنّ أيّ رجل يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه شيئاً، وليس عن شيء آخر له علاقة به. إنها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى لا تفسير لها.
فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة.
هل رسمت نسخة مزوّرة عنك إذن؟ أحقّ أنه ليس بينك وبين هذا الجسر من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة طبق الأصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك في النهاية، أن تصبحي نسخة أخرى عن كاترين لا غير، أن تتحولي إلى لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من المساحيق، يشبه وجهه؟
ترانا لم نَشْفَ من هذه العقدة؟
قلت لك بشيء من اليأس:
- إذا كان هذا ما تر