ربما يبدو عنوان المقال غريبا، ولكن دعونا نتساءل: ماذا نقصد بفهم الشيطان؟ ولمَ نفهم الشيطان أصلاً؟، وهل يمكن فهم الشيطان أساسا؟. بأسلوب تداعي الأفكار أجيب عن التساؤل الأول؛ بأن فهم الشيطان يعني التعرف على كيفية تعامله مع البشر، وأهدافه، ومخططه الإستراتيجي، وتكتيكاته المرحلية، من أجل الوصول لهدفه المنشود، ثم كيف يمكن إفشال مخططاته وصد محاولاته.
بداية، علينا أن نعرف أن الشيطان مخلوق من مخلوقات الله تعالى التي نعلمها. يقول عز وجل في كتابه الحكيم: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
.
فمخلوقات الله عز وجل ليست محصورة في دائرة ما نعرفه فقط؛ لأن الكون الفسيح بمجراته وعوالمه المعروفة وغير المعروفة يحوي حتمًا العديد من المخلوقات التي لا نعرفها.
إذن، فالشيطان هو هذا الكائن الذي عرفه لنا القرآن وبينته السنة بصفات محددة وثابتة، ومن المعروف عنه أنه عاصٍ لله تعالى، وسيكون مأواه جهنم وبئس المصير.
وعلى الرغم من أن كل مسلم يعرف هذه الحقيقة جيدا، فإن البعض يتناساها، كما يحلو للبعض أن يطلق عليه لقب "شوشو"، حتى إن بعض الشباب يقول بعد اقتراف أي ذنب: "منك لله يا شوشو"!.
والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن الشيطان عدونا، وأن المعركة بيننا وبينه جادة، وتتعلق بمصائرنا.
ويأمرنا الله تعالى في القرآن الكريم أن نتخذه عدوا، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6). ليس هذا فحسب بل إن الشيطان يسري من الإنسان مسرى الدم في العروق.
وقد روى البخاري في صحيحه عن الزهري قال: أخبرني علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي (زوجتي)"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!!. وكَبُرَ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا". صحيح البخاري.
ومعنى "تنقلب" أي تذهب. ومعنى "يقلبها" أي يوصلها. والمقصود بـ"كبر عليهما" أن رأوا أن الأمر كبير ولا داع للتعريف بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يفعل سوءا وهما لن يظنا به سوءا، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.
أينما نكون يلاحقنا الشيطان بوسوسته، حتى في أثناء الصلاة أم العبادات، غير أن هذا الشيطان ليس له سلطان على عباد الله المجاهدين، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر: 42)، ويصف كيده بالضعف قائلا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء: 76).
أليس واجبا علينا أن نفهم هذا المرابض داخلنا دائما؟ طالما أنه يسري بداخلنا مسرى الدم في العروق، أليس من المفيد أن نتعرف على مكامن قوته ونقاط ضعفه، وأن نعرف كيف نتعامل معه، وكيف يفكر ليوقعنا في الفخ ويدفعنا إلى الجحيم؟
ومما لا شك فيه أن الشيطان يتربص بالمسلم، ويكيد به، ويدبر له، ومن ثم فعلينا أن نكون يقظين تماما لهذا، فهو لم ينسَ يوما أمر الله له بالسجود لآدم والذي حكاه القرآن قائلا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (الإسراء: 61).
وقد استمر الشيطان في الكيد لأبناء آدم عليه السلام -نحن البشر- فوضع الخطط بمكر شديد، وبدأ التنفيذ في إحكام. وطلب من الله أن يتركه ينفذ مخططه {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر: 39-40).
حيلٌ ماكرةٌ
إن خطة الشيطان التي وضعها للإيقاع بنا في حبائله، وإلقائنا في جهنم يوم الحساب هي خطة ماكرة، وعلينا أن نعترف بأن الشيطان قد بلغ درجة من المكر والدهاء، فهو يجدد في وسائله و"يبدع" في حيله لجذب المسلم للمعاصي، وإلهائه عن الطاعات، فلا تدع الدهشة تجعلك تتعجب من الوصف السابق للشيطان؛ لأنه كذلك فعلاً، فهو لا يسلك نفس الطريق لنفس الشخص على مدار حياته.
فالشاب في أثناء دراسته تكون له طريقة في التفكير، وحين يتقدم في العمر يستخدم الشيطان وسيلة مختلفة للإيقاع به في المعاصي، وحين يتزوج يصير الهم الأول للشيطان أن يوقع بين الزوجين؛ لأن هذا يعد -بالنسبة للشيطان- نصرا كبيرا. فإبليس يحتفي بهذا كثيرا، ويسيطر على الفاشلين في حياتهم الزوجية سيطرة كبيرة، فمعظم الفاشلين في حياتهم الزوجية هم من خريجي مدرسة "إبليس" لعنه الله!.
ولإبليس مداخل خاصة للمرأة، تدور في معظمها حول استخدام جسدها في فتنة الرجال وإغرائهم؛ حيث يسول لها أن هذا الجمال الذي تتمتع به هو من نعم الله عز وجل، وأن الله جميل يحب الجمال، ووو... إلخ، كما يسول للرجال أن ينظروا إليها، واهما إياهم بأن هذه النظرة ليس عليها إثم... حتى يوقعهما فيما يغضب الله.
كما أن شيطان الشخص الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة يختلف عن شيطان مهندس الكمبيوتر- مثلاً- في طريقة الدخول على الإنسان والوسوسة له، فلكلٍّ شيطانه، وكلها أمور تختلف من شخص لآخر، وهذا أمر بديهي ومتعارف عليه، ويدلل في الوقت نفسه على مكر الشيطان وخبثه.
ولا ييأس الشيطان عن إغواء الإنسان، فهو يعمل ليل نهار بلا كلل ولا ملل، ولا يحصل على إجازة، وفيما يعتبر البعض أن شهر رمضان (المبارك) إجازة سنوية للشيطان؛ فإن عددا من العلماء يرون أن التصفيد معنوي، وأن الشيطان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره من الشهور، ليواجه المد الإيماني للمسلم المتمثل في حالة الإقبال على الله بفعل الطاعات، وترك المنكرات.
فيوسوس الشيطان للموظف المرتشي حين يقبل الرشوة -لأول مرة- بأنها ستكون مرة وحيدة ولن يكررها مرة أخرى، أو يزيف وعيه، ويجعله يرى العالم كله لا يتحدث إلا بـ"لغة الرشوة"، فيسهل له هذا الطريق نحو مزيد من الرشاوى، ويعدل من طريقته أحيانا أخرى بأن يسمي الأمور بغير مسمياتها الحقيقية؛ كأن يقول: إنها ليست رشوة، بل إكرامية أو هدية، وشتان بينهما!!.
وهكذا تتنوع حيل الشيطان وطرقه مع الشخص الواحد، أليس هذا مدعاة لأن نفهمه ونعرف حيله وخططه؛ لنتمكن من إبطالها، وإيقاف مفعولها، ومن ثم نتمكن من التعامل معه، بل والانتصار عليه؟.
ولكن هل يمكن الانتصار على الشيطان؟ لِمَ لا.. طالما أنه لا سلطان للشيطان على عباد الله المخلصين؟ وقد كان الشيطان يفر من طريق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويسلك دربا غيره؛ لما لعمر من قوة ردع إيمانية. فهلا فكرنا كيف فعلها هذا الرجل؟ كيف استطاع ابن الخطاب أن يقهر شيطانه، وكيف يمكننا أن نهزمه؟